بقلم: فضيلة الشيخ فؤاد زراد
عضو المجلس الشرعي الإسلامي الأعلى
أَحْمَدُ اللهَ تَعَالَى خَالِقِ النُّوْرِ وَالظَّلَامِ، وَمُقَلِّبِ الشُّهُوْرِ وَالأَيَّامِ، وَأُصَلِّيْ وَأُسَلِّمُ عَلَىْ أَفْضَلِ مَنْ صَلَّىْ وَصَامَ، وَأَشْرَفَ مَنْ تَهَجَّدَ وَقَامَ، وَعَلَىْ آلِهِ وَصَحْبِهِ البَرَرَةِ الكِرَامِ. أَمَّا بَعْدُ:
يَقُوْلُ اللهُ تَعَالَى “شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ”. (سورة البقرة، الأية 185)
لَقَدِ امَتَنَّ اللهُ على عِبَادِهِ المـُؤْمِنِيْنَ فَهَدَاهُمْ للإِسْلامِ، وَهَيَأَ لَهُمْ نَفَحَاتِ الإِيمَانِ، فَجَعَلَهَا مُنَاسَبَاتٍ طَيِّبَةً وَمَوَاسِمَ خَيِّرَةً؛ لِيَتَزَوَّدُوْا مِنَ الأَعْمَالِ بِأَصْلَحِهَا، وَيَصْقُلُوْا فِيْهَا قُلُوْبَهُمْ بِأَوْضَئِهَا، وَيُهَذِّبُوا فِيْهَا نُفُوْسَهُم بِأَنْفَعِهَا، وَيُجَدِّدُوا فِيْهَا الإِيْمَانَ؛ وَيَشْعُرُوا بِهَا بِالأَمَانِ، فَاخْتَارَ لَهُمْ مِنَ الشُّهُوْرِ شَهْرَ رَمَضَانَ، وَمِنْ أَيَّامِهِ العَشْرَ الأَوَاخِرِ، وَمِنْ لَيَالِيْهِ لَيْلَةَ القَدْرِ، وَاخْتَصَّ كُلَّ ذَلِكَ بِكَرَامَاتٍ وَفَضَائِلَ يَنْبَغِيْ أَنْ يَعْرِفَ المـُـسلِمُ كَيْفَ يَسْتَفِيْدُ مِنْهَا وَكَيْفَ يُرَاعِي فِيْهَا قُدْسِيَةَ زَمَانِهَا وَوَقْتِهَا.
إِنَّهُ شَهْرٌ نَرْتَوِيْ كُلَّ عَامٍ مِنْ نَمِيْرِهِ، وَنَرْتَشِفُ مِنْ رَحِيْقِهِ، وَنَشُمُّ عَاطِرَ شَذَاهُ؛ قُلُوْبُنَا مُشْرَئِبَّةٌ، وَعُيُوْنُنَا مُحَدِقَةٌ بِلَهْفَةِ المـُـشْتَاقِ، وَلَوْعَةِ الفَاقِدِ؛ فَقَدْ كَانَتْ مُنْتَظِرَةً اِنْبِثَاقَ هِلَالِ رَمَضَانَ الوَلِيْدِ الَّذِيْ أَطِّلَ عَلَيْنَا مُنْذُ أيامٍ مَعْدُوْدَةٍ رَاسِمًا عَلَىْ صَفْحَةِ السَّمَاءِ لَوْحَةً وَضَاءَةً كَأَنَّهَا بَسْمَةٌ مُشْرِقَةٌ خَرَجَتْ مِنْ ثَغْرِ الفَضَاءِ.
إنَّهُ زَائِرٌ زَاهِرٌ، وَشَهْرٌ عَاطِرٌ، فَضْلُهُ ظَاهِرٌ، بِالخَيْرَاتِ زَاخِرٌ، شَهْرُ القَبُوْلِ وَالسُّعُوْدِ، وَالعِتْقِ وَالجُوْدِ، وَالتَّرَقِّيْ وَالصُّعُوْدِ، مِنْهُ نَسِيْمُ القَبُوْلِ هَبَّ، وَسَيْلُ الخَيْرِ صَبَّ، وَهُوَ بَابٌ لِلخَيْرِ مَفْتُوْحٌ لِمَنَ أَحَبَّ.
هَا قَدَ أَقْبَلَ لَيْلُ رَمَضَانَ بِحَنَادِسِ ظَلَامِهِ وَسَوَادِهِ، وَسَيُقْبِلُ عَلَيْهِ الصَالِحُوْنَ الَّذِيْنَ سَيُرْهِقُ أَجْسَامَهُمُ خَوْفُ الوَعِيْدِ، وَيُغَيِّرُ أَلْوَانَهُمُ السَّهَرُ العَتِيْدِ؛ لأَنَّهُم اعْتَادُوا أَنْ يَسْتَنْبِطُوْا مِنْ دَاجِيَةِ حِلْكَتِهِ أَنْوَارَ الصَّبَاحِ، وَيَنْسِجُوْا مِنْ عَتْمَتِهِ بُرُدَ الضِّيَاءِ الوَضَّاحِ، وَيَصْنَعُوْا مِنْ وَحْشَتِهِ الأُنْسَ الفَوَاحِ، وَيُنْطِقُوْا صَمْتَهُ المــَهِيْبِ بِأَلْسِنَةٍ فِصَاحٍ.
هَا هُمْ أُوْلَئِكَ الرِّجَالَ الَّذِيْنَ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ يَنْتَصِبُوْنَ بِهَامَاتِهِمُ الجَلِيْلَةُ فِيْ مَحَارِيْبِهِمْ، يَتَنَسَّكُوْنَ لِبَارِئِهِمْ؛ يُعْطُوْنَ المــَجْهُوْدَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ حَتَّى تُدَبَّرَ مَفَاصِلَهُمْ مِنَ الرُّكُوْعِ، وَتَتَقَرَّحُ جِبَاهُهُمُ مِنَ السُّجُوْدِ، وَتَنْحَلَ أَجْسَادُهُم مِنَ السَّهَرِ وَعَظِيْمِ المــَجْهُوْدِ، يَرَوْنَ أَنَّ مِنْ أَعْظَمِ نِعَمِ اللهِ عَلَيْهِمْ، أَنْ أَقَامَهُمْ وَأَنَامَ غَيْرَهُمْ، وَاسْتَزَارَهُمْ وَطَرَدَ غَيْرَهُمْ، وَأَهَّلَهُمْ وَحَرَمَ غَيْرَهُمْ.
أَقْبَلْتَ تَزْهُوْ وَنُـوْرُ الْوَجْهِ وَضَّـاءُ فَمَا ارْتَأَتْ فِيْ رُبَاكُـمْ قَطُّ ظَلْمَاءُ
أَهْلاً بِشَهْرٍ حَلِيْفِ الْجُوْدِ مُذْ بَزَغَتْ شَمْسٌ وَصَافَحَ زَهْرَ الرَّوْضَةِ الْمَاءُ
شَهْـرٌ تَلأْلأَ بِالْخَيْـرَاتِ فَانْهَزَمَتْ أَمَـامَ سَاحَتِـهِ الشَّمَّـاءِ ضَـرَّاءُ
تِلْكَ الْمَسَاجِـدُ بِالتَّسْبِيْـحِ آهِلَـةٌ كَأَنَّهَا بِالْهُـدَى فَجْـرٌ وَأَضْـوَاءُ
وَالصَّالِحُـوْنَ وَمَنْ يَقْفُوْ مَآثِرَهُـمْ بَدَتْ عَلَـى وَجْهِهِمْ بُشْرَى وَلأْلآءُ
وَالْكُلُّ فِيْ طَـرَبٍ يَشْدُو بِمَقْدَمِـهِ كَأَنَّهُ مِنْ جَمَالِ الـرُّوْحِ حَسْنَـاءُ
يَا أُمَّتِي اسْتَقْبِلِيْ شَهْـرًا بِرُوْحِ تُقًى وَتَوْبَـةِ الصِّدْقِ فَالتَّأْخِيْـرُ إِغْوَاءُ