بقلم: فضيلة الدكتور أحمد عبدالرحمن
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الله خلق سيدنا محمد وعلى آله وصحبه ومَنْ سار على هديه بإحسان إلى يوم الدين أما بعد:
الصلاة معراج الروح, وصلة العبد بربه, وراحة المؤمن, والحلوة مع الرب, والتذلل بين يدي الرحيم, والإقبال على الغفور الودود, والتلذذ بالخضوع والسجود, وتنزيه الله بالتسبيخ, كل هذه المعاني الباطنية وغيرها ينبغي أن يحرص عليها العبد في صلاته, وأن يأتي بأفعالها الظاهرة من إتقان أركانها وواجباتها وسننها وآدابها لعله أن يدخل تحت قوله تعالى: {قد أفلح المؤمنون الذين هم في صلاتهم خاشعون} [المؤمنون: 1, 2], وأن يتعرّض لها في هذا الشهر الكريم بأن يأتي بها على أكمل وأتم وجه حيث جعل الله الطاعة فيه مضاعفة, ويكون ذلك أيضاً مدعاة للتغيير في حياتنا وطريقاً نسلكه على نهج الشرع الحنيف.
لنقف قليلاً عند بعض أسرار الصلاة وأسباب فرضيتها على العباد, لعل أن يكون ذلك لنا حافزاً ومنشطاً على امتثال أمر الله سبحانه وتعالى.
السر الأول: نعمة الخِلْقة؛ حيث فضّل الجوهر الإنسي بالتصوير على أحسن صورة، وأحسن تقويم كما قال تعالى: {وصوركم فأحسن صوركم} [غافر: 64] وقال تعالى: {لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم} [التين: 4] حتى لا ترى أحداً يتمنّى أن يكون على غير هذا التقويم، والصورة التي أنشئ عليها.
السر الثاني: نعمة سلامة الجوارح عن الآفات؛ إذ بها يقدر على إقامة مصالحه، أعطاه الله ذلك كله إنعاماً محضاً من غير أن يسبق منه ما يوجب استحقاق شيء من ذلك، فأمر باستعمال هذه النعمة في خدمة المنعم شكراً لما أنعم، إذ شكر النعمة: استعمالها في خدمة المنعم ثم الصلاة تجمع استعمال جميع الجوارح الظاهرة من القيام، والركوع، والسجود، والقعود ووضع اليد مواضعها وحفظ العين، وكذا الجوارح الباطنة من شغل القلب بالنية، وإشعاره بالخوف، والرجاء، وإحضار الذهن، والعقل بالتعظيم، والتبجيل؛ ليكون عمل كل عضو شكراً لما أنعم عليه في ذلك.
السر الثالث: نعمة المفاصل اللينة، والجوارح المنقادة التي بها يقدر على استعمالها في الأحوال المختلفة؛ من القيام، والقعود، والركوع والسجود والصلاة تشتمل على هذه الأحوال فأمرنا باستعمال هذه النعم الخاصة في هذه الأحوال في خدمة المنعم؛ شكراً لهذه النعمة، وشكر النعمة فرض عقلاً وشرعاً.
السر الرابع: أنها مانعة للمصلي عن ارتكاب المعاصي؛ لأنه إذا أقام بين يدي ربه خاشعاً متذللاً مستشعراً هيبة الرب جل جلاله خائفا تقصيره في عبادته كل يوم خمس مرات عصمه ذلك عن اقتحام المعاصي والامتناع عن المعصية فرض وذلك قوله تعالى: {وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفاً من الليل إنَّ الحسنات يذهبن السيئات} [هود: 114], وقوله تعالى: {وأقم الصلاة إنَّ الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر} [العنكبوت: 45].
السر الخامس: أنَّ الصلاة – وكل عبادة – خدمة الرب جل جلاله، وخدمة المولى على العبد لا تكون إلا فرضاً؛ إذ التبرع من العبد على مولاه محال، والعزيمة هي شغل جميع الأوقات بالعبادات بقدر الإمكان، وانتفاء الحرج إلا أن الله تعالى بفضله وكرمه جعل لعبده أن يترك الخدمة في بعض الأوقات رخصة حتى لو شرع لم يكن له الترك؛ لأنَّه إذا شرع فقد اختار العزيمة، وترك الرخصة؛ فيعود حكم العزيمة، يحقق ما ذكرنا: أنَّ العبد لا بد له من إظهار سمة العبودية؛ ليخالف به من استعصى مولاه، وأظهر الترفع عن العبادة، وفي الصلاة إظهار سمة العبودية؛ لما فيها من القيام بين يدي المولى جل جلاله، وتحنية الظهر له، وتعفير الوجه بالأرض، والجثو على الركبتين، والثناء عليه، والمدح له.
السر السادس: أنَّها جعلت مكفرة للذنوب والخطايا والزلات والتقصير؛ إذ العبد في أوقات ليله ونهاره لا يخلو عن ذنب، أو خطأ، أو زلة، أو تقصير في العبادة، والقيام بشكر النعمة، وإن جل قدره وخطره عند الله تعالى؛ إذ قد سبق إليه من الله تعالى من النعم، والإحسان ما لو أخذ بشكر ذلك لم يقدر على أداء شكر واحدة منها، فضلاً عن أن يؤدي شكر الكل؛ فيحتاج إلى تكفير ذلك؛ إذ هو فرض ففرضت الصلوات الخمس تكفيراً لذلك.
فهذه الأسرار: امتثال وطاعة له سبحانه تعالى, ومن ثَمَّ إسراء بالروح إلى الخالق, وتهذّيبٌ للنفوس وضبطٌ للجوارح والتصرفات وفق الشرع الحنيف.