بقلم: الشيخ سلمان بارودي
مدرس فتوى – إمام وخطيب مسجد سيدي عبد الواحد
أنشدني شيخي رحمه الله تعالى في يوم من أيام رمضان من عام 1433هـ ، وقد كنت في صحبته ، فقال :
رمضانُ جامعةٌ تُخرجُ للوَرَى . . . متخصّصينَ بصنعةِ الإحسانِ
تعطي الدليلَ بأنّ صاحبَها امرؤٌ . . . مِنْ أمةِ الأخلاقِ والإيمانِ
فلهُ الهناءُ مَنِ استحَقَ شهادةً . . . بالبذلِ مِنْ رمضانَ في الأزمانِ
هي أيام معدودات.. نعيشها مع الرقيب جل في علاه ، ونستشعر فيها معنى قولِ سيّدِنا مُحَمّدٍ عليه الصلاة والسلام : ( أن تعبد الله كأنك تراه ) فترتقي أرواحنا إلى مقام المعرفة والإحسان ، ونعيشُ في عبقٍ إيماني رمَزَ إليه أهل الإشارة بقول الله تعالى : ( فمن شهد منكم الشهر فليصمه ) وقالوا : الشهود نوعان :
– شهودٌ حسِيّ ، يتمثل في التماس الهلال حينما نرنو بأبصارنا نحو الأفق في السماء ، فإننا ومن خلال توجهنا إلى الأعلى نُشيرُ إلى عُلوِّ المكانةِ التي ينالها المسلمُ في شهر الصيام.
وفي هذا دعوة إلى التخلي عن كل ما يَقعُدُ بنا ويتجاذَبُنا نحو الأرض بحملٍ ثقيلٍ من حظوظ النفس والشهوات ، فتتغير عندنا العادات ، ولا نكون كالذي أَخۡلَدَ إِلَى ٱلۡأَرۡضِ وَٱتَّبَعَ هَوَاه…
– والثاني، شهودٌ مَعرِفِيّ, وقبل الخوض فيه أقول : مَنْ دخل حضرة الصيام ، وشرب مِنْ ورده الصافي على التمام ، نال درجة الصالحين ، وَٱللهُ عَلِیمُۢ بِٱلۡمُتَّقِینَ. وكل ما أتجرّأ على ادعائه فيما تقرؤون… هو أنني في محاولة أدندن فيها حول حضرته ، وقصارى أملي أن أكون قد وفيته بعض حقه.
يقول الشيخ الأكبر محي الدين ابن عربي قدّس الله سرّه ورضي عنه 🙁 إعلم أيدك الله أن الصوم هو الإمساك والرفعة، يقال في اللغة : صام النهار ، إذا ارتفع. ولما ارتفع الصوم عن سائر العبادات كلها في الدرجة سمّي صوما.. واللهُ رفعه بنفي المثلية عنه في العبادات… روى النَّسائي عن أبي أمامة قال : أتيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلتُ : مُرني بأمر آخذه عنك. قال : عليك بالصوم فإنه لا مثل له. ولهذا قال الله تعالى : الصوم لي.. وأضافه إلى نفسه… ) الفتوحات.
فينبغي للصائم أن يكون مدّة صومه ناظرا فيه إلى ربه ، ومراقبا له على الدوام ، حتى يصح كونه صائما لا يغفل عنه.. وهذا ما قرّره أهل التربية والسلوك على كل مريد بأن يقول في خلواته وجلواته : الله شاهدي. الله ناظري. الله معي.
ذلكم الشهود يقصد به غياب النفس عن ملذّاتها وشهواتها.. والاندماج الكليّ في الروح ، حيث يرتقي المؤمن بصيامه ليحاكي الملأ الأعلى ، ويتحقق فيه قول القائل : فأنت بالروح لا بالجسم إنسانُ.
ومقام الإحسان سلوكٌ ، وأخلاقٌ ، ودرجات.. مثَّلَ لها رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم ، بقوله : ( فَإِذَا كَانَ يَوْمُ صَوْمِ أَحَدِكُمْ، فَلَا يَرْفُثْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَسْخَبْ ، فَإِنْ سَابَّهُ أَحَدٌ أَوْ قَاتَلَهُ، فَلْيَقُلْ: إِنِّي امْرُؤٌ صَائِمٌ ) أي : إنني تارك لهذا العمل الذي عملتَه أنت أيها المقاتل والسابّ في جانبي.. لأنني أعيش في روحانيتي…
فمن راعى ربه فيما كتبه عليه ، وأدّى فرضه بحقه : راعاه الله تعالى. ومن عاش بأدبِ الحضور والشهودِ مع الرقيب : نال شرف القرب ، وأجيبت دعوته ، وتحقق مطلبه ، قال الحق سبحانه في ختام آيات الصيام : { وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِی عَنِّی فَإِنِّی قَرِیبٌۖ أُجِیبُ دَعۡوَةَ ٱلدَّاعِ إِذَا دَعَانِۖ فَلۡیَسۡتَجِیبُوا۟ لِی وَلۡیُؤۡمِنُوا۟ بِی لَعَلَّهُمۡ یَرۡشُدُونَ }
أما من جعل يومه في رمضان يوماً عادياً كسائر الأيام ، ووقع في غفلته ، ولم يدع قول الزور والعمل به ( فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه )
جدير بنا ونحن في شهر رمضان أن نلحق بركب عباد الله الصالحين، ونُحسِن إلى أنفسنا فلا نقع في المحظور ، ولا نترك المأمور.
ونحسن إلى غيرنا بما ينفعهم من القول والعمل. وكل ذلك في أجواء روحانية عالية ؛ هي أحرى بأن تكون ميداناً يتنافس فيه المتنافسون ، ومضمارا يتسابق فيه الصالحون. فينتج عنّا عطاء غير محدود.. فنعطي على قدر شهودنا وإحساننا ، وحسن الظن بربنا ، تأسياً برسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم، الذي كان أجود الناس ، وكان أجود ما يكون في رمضان…
هُوَ البَحرُ مِن أَيِّ النَواحي أَتَيتَهُ .. فَلُجَّتُهُ المَعروفُ وَالجودُ ساحِلُه
كَريمٌ إِذا ما جِئتَ لِلخَيرِ طالِباًّ . . حَباكَ بِما تَحوي عَلَيهِ أَنامِلُه
وَلَو لَم تَكُن في كَفِّهِ غَيرُ روحهِ .. لَجادَ بِها فَليَتَّقِ اللَهَ سائِلُه
هذه هي صنعة الإحسان.. وهذه هي جامعة رمضان.. تُخرِّج أولياءَ للهِ { لَا خَوۡفٌ عَلَیۡهِمۡ وَلَا هُمۡ یَحۡزَنُونَ * ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ وَكَانُوا۟ یَتَّقُونَ } فهنيئاً لكل مسلم أدرك رمضان { إِنَّ ٱللَّهَ مَعَ ٱلَّذِینَ ٱتَّقَوا۟ وَّٱلَّذِینَ هُم مُّحۡسِنُونَ }