بقلم: الاستاذ الدكتور رأفت محمد رشيد الميقاتي
رئيس جامعة طرابلس لبنان
رمضان ميزان العام, وشهر برمجة الإنسان وإنعاش المجتمع ومحطة توليد الطاقة الروحية المتجددة
الحمد لله رب العالمين وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين وعلى آله وأصحابه أجمعين ،
أما بعد ،
فإنه من المقرر أنه إذا كانت الصلاة ميزان اليوم، والجمعة ميزان الأسبوع ، فإن شهر رمضان المبارك هو ميزان العام، كما أن الحج ميزان العمر
ولا عجب فإن شرف هذا الشهر الكريم نابع من كونه شهرًا نزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان ، وهل تطيب للإنسان حياة بدون أنوار الوحي الإلهي التي تضبط بدقة فائقة موازين فكره وقلبه وسلوكه وقراراته وخارطة تحركاته لإعلاء كلمة الله في أرضه وبسط السعادة بذلك في كل الميادين والمجتمعات ، قبل رحيله عن هذه الدنيا الفانية إلى الدار الآخرة.
ورمضان محطة توليد الطاقة الروحية المتجددة التي تشحذ العزائم بالانطلاق في ساحات الأرض بالخيرات والمكرمات ، وفي آفاق السماء بالدعاء والتسبيح والاستغفار ، وذلك بعد انقطاع الأجساد عن شهواتها لتسمو بطهر إلى رياض الأنس الإلهي ، فيذوق المرء لذة القرب وحلاوة الطاعة ، ويكون على منهج الله تعالى صاحب الملك والملكوت والعزة والجبروت في كل كبيرة وصغيرة ، ليستقيم كما أمره الله تعالى ، ويصيب الهدف الأكبر الذي نسيه الكثيرون في زحمة الحياة وتعقيداتها ، ألا وهو رضوان الله الأكبر.
رسالتنا في رمضان أن يكون شهر النفير والتغيير ، أما النفير فهو شد الرحال بعزم واجتهاد إلى الصيام والقيام والذكر وتلاوة القرآن وإخراج الزكوات والصدقات كاملة غير منقوصة وإحياء سنة الاعتكاف في العشر الأخير ومجاهدة الباطل من بدر إلى القادسية إلى عين جالوت إلى العاشر من رمضان إلى “سيف القدس” التي توحد فيها أهل فلسطين قاطبة وأحرار العالم في وجه الاحتلال الإسرائيلي الغاشم وعدوانه على المسجد الأقصى الشريف وأرض فلسطين المباركة؛ وأما التغيير فمنطلقه تحرير الإرادة من كل الأغلال التي تعتقلها وتلحقها بتبعية عمياء لعادات أو لأشخاص أو لعصبيات معينة ، فليكن شهر رمضان شهر التمرد على كل الأضرار والصوم الأبدي عنها من التدخين إلى المخدرات بأنواعها وخاصة المخدرات الثقافية والإعلامية والسياسية والعصبيات المذهبية والحزبية والمناطقية ، مرورا بالصوم عن أكل أموال الناس بالباطل والاستيلاء على عرق جبينهم ومدخراتهم ، والصوم عن شهادة الزور في الحياة العامة والخاصة بالجملة والمفرق ، وصولا إلى الصوم عن سن القوانين البائسة المحللة للحرام والمحرمة للحلال كالمصادقة على مواثيق دولية هادمة للأسرة والأخلاق ، وقانون الانتخابات النيابية الذي مزق المجتمع أشلاء ، وكل ذلك يذكرنا بلون جديد من فهم حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم : “رُب صائم ليس له من صيامه إلا الجوع والعطش ورب قائم ليس له من قيامه إلا السهر والتعب” ، وقوله ” من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه”
نداؤنا في رمضان إلى كل غيور على مجتمعه وأمته أن يكون هذا الشهر شهر المبادرات الإنسانية بكل أبعادها وألوانها لإدخال السرور إلى بيوت من اجتاحتهم الكوارث المتوالية في بلادنا المنكوبة ، وتعزيز المؤسسات ذات الحضور الفاعل والتي ترعى أبناءنا تربويا واجتماعيا وفكريا وسلوكيا وصحيا ، فتتجدد هذه الخلايا المكونة للمجتمع من جديد وتقوى أنسجتها ، وتنهض بالعيد على مدى عام في برمجة دقيقة متماسكة هادفة ، وينتعش المجتمع بكل فئاته وأطيافه في ظلال الطاعات المؤداة إيمانًا واحتسابا لله عزّ وجلّ .